حين عاد إسماعيل عساف إلى بلدته “معصران” في ريف إدلب، لم تكن صدمة الدمار محصورة في منزله المُهدّم، بل امتدت كألم غائر إلى الحقل المجاور، حيث كانت أشجار الزيتون تقف كشهود على عمرٍ من الكدّ والرزق. اليوم، لم يتبقَّ شيء منها. بعضها أُحرق، وبعضها قُطع من الجذور، وبعضها الآخر اقتُلِع بالكامل، وكأنها أُعدمت بلا ذنب.
كارثة زراعية واسعة النطاق
أكثر من مليون ونصف شجرة زيتون، و350 ألف شجرة فستق حلبي، و100 ألف شجرة تين، قُطعت أو أُحرقت أو أُبيدت، وفقاً لمدير الزراعة في إدلب مصطفى الموحد، الذي كشف عن كارثة اقتصادية بعد استعادة السيطرة على المنطقة من قوات النظام. “وجدنا الأرض ميتة”، قال الموحد، “وكأن الحياة طُردت منها عمداً”.
وأوضح أن هذا التدمير المنهجي طال أيضاً عشرات الآلاف من الأشجار المثمرة الأخرى، مخلفًا فراغًا إنتاجيًا طويل الأمد، وأضرارًا لا تقتصر على المحاصيل فحسب، بل على البنية الاقتصادية للمنطقة بأكملها.
أشجار الذاكرة والميراث
الأشجار التي تم تدميرها لم تكن مجرد مصدر رزق، بل ذاكرة أجيال. بعضها تجاوز عمره 70 عاماً، وأخرى تعود إلى قرن مضى. إعادة تأهيل هذه الثروة تتطلب 15 عاماً من الصبر، وكلفة تصل إلى 147 مليون دولار، في وقت لا تملك فيه مديرية الزراعة سوى الإمكانيات الخجولة: 60 ألف غرسة زيتون و10 آلاف فستق لا تكفي لرقعة جغرافية نازفة.
كما أشار الموحد إلى أن الفاقد الزراعي لا يعني فقط خسارة المحاصيل، بل يمثل ضربة موجعة لمصدر رئيسي من مصادر العملة الصعبة لسوريا، إذ شكّلت صادرات الزيت والزيتون والفستق الحلبي أحد أعمدة الاقتصاد الزراعي قبل الحرب.
المزارع العائد والألم المتجدد
المزارع أحمد لخليف، الذي عاد بعد سنوات من النزوح، واجه المشهد ذاته: “قد أعيد بناء بيتي، لكن من يُعيد لي شجرة الزيتون التي ربيتها 50 سنة؟”.
محاولات إعادة الأمل
في خضم هذا الألم، أطلقت الجهات المعنية حملات توعية زراعية وندوات ميدانية لشرح طرق استصلاح الأرض والتعامل مع الأشجار المحروقة. كما تعمل فرق الإرشاد الزراعي على تدريب المزارعين على اختيار الغراس المناسبة لكل نوع من الأشجار، مع التركيز على أساليب الزراعة العلمية. في الوقت ذاته، أعادت مديرية الزراعة تشغيل المشاتل المحلية لزيادة إنتاج الغراس، تحضيرًا لموسم الغرس في الخريف المقبل.
الفستق الحلبي.. خسارة مزدوجة
الفستق الحلبي بدوره لم ينجُ، كما يقول سعد الحسن، مزارع في الثمانين: “اقتلعوا الأشجار في أوج عطائها.. الفستق يحتاج عقداً ليعود، لكنه لن يعود كما كان”. ويؤكد أن الأشجار الجديدة تبدأ بالإنتاج بعد سبع سنوات، لكنها لا تصل إلى الجودة أو الكمية السابقة إلا بعد أكثر من عشر سنوات. كما أن رعايتها تتطلب مكافحة دقيقة للأمراض، مما يرفع كلفة صيانتها ويثقل كاهل المزارعين العائدين من النزوح.
في ريف إدلب، لم تكن المعركة فقط ضد البشر، بل ضد الجذور أيضاً. الأرض نزفت زيتوناً وفستقاً.. وحياة.