مع تكثيف القصف المدفعي والغارات الجوية الإسرائيلية على محيط مدينة غزة، يعيش عشرات الآلاف من السكان حالة من الذعر والتردد، وسط تحذيرات متصاعدة من احتمال تنفيذ عملية برية شاملة قد تفضي إلى تهجير دائم لسكان المدينة الأكبر في القطاع.
وأعلنت إسرائيل أن مدينة غزة باتت “منطقة قتال”، في إطار حملتها العسكرية الهادفة إلى السيطرة على شمال القطاع. في الوقت ذاته، طالبت القوات الإسرائيلية سكان عدد من الأحياء بالمغادرة الفورية، محذرة من “تدمير وشيك” للمناطق المصنّفة “مناطق حمراء”.
سكان يعيشون في ظل القصف وخوف التهجير
يعيش محمد الكردي، مدير المشاريع، في شقة تقع غرب مدينة غزة، ويؤكد أن أصوات الجرافات والآليات العسكرية الإسرائيلية لا تتوقف، مشيرًا إلى أن “المنطقة تُمحى بالكامل”. ويوضح الكردي أن منزله يهتز طوال الوقت كما لو أن زلزالًا يضربه، مضيفًا أن الخيارات أصبحت محدودة جدًا: “إما أن تبقى وتموت، أو تغادر ولا تعود أبدًا”.
وفي السياق ذاته، تكشف صور أقمار صناعية، التُقطت بين شهري أغسطس وسبتمبر، عن دمار واسع طال أحياء رئيسية مثل الزيتون والصبرة، حيث تحولت كتل سكنية كاملة إلى أراضٍ فارغة. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، لا يزال نحو مليون فلسطيني في مدينة غزة، رغم أن ما يزيد عن 14 ألفًا فرّوا منها مؤخرًا، في حين اضطر حوالي 2200 شخص للنزوح داخل المدينة ذاتها بفعل القصف المستمر.
عودة محفوفة بالمخاطر
خلال وقف إطلاق النار المؤقت في يناير الماضي، عاد الكثير من العائلات إلى غزة على أمل العثور على منازلهم، لكنهم وجدوا الدمار ينتظرهم. الكردي، الذي فقد منزله بالكامل، يعيش الآن بمفرده بعد أن تمكنت زوجته وأطفاله من مغادرة القطاع العام الماضي.
في السياق ذاته، أوضح أمجد شوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، أنه عاد مع عائلته إلى منزله في حي الرمال مع بداية العام الجاري، مستفيدًا من فترة الهدوء النسبي آنذاك. لكنه أشار، في الوقت نفسه، إلى أنه لن يتردد في المغادرة مجددًا إذا ما صدرت أوامر بإخلاء المنطقة. وأضاف شوا أن الظروف هذه المرة تختلف تمامًا، قائلاً: “في السابق، كانت هناك سيارات ووقود، وكان لدى الناس بعض المال. أما اليوم، فلا توجد رفح ولا خان يونس كما عرفناهما، ولا شيء متاح لمن يريد النجاة”.
كبار السن والمرضى: النزوح مستحيل
بالنسبة لكثير من العائلات في غزة، فإن خيار المغادرة غير ممكن فعليًا. نورهان المزيني، وهي مسؤولة برامج طبية، أوضحت أن والدتها وعمتها تعانيان من صعوبات في الحركة، في حين تفتقر العائلة لأي وسيلة لنقلهما. وأشارت إلى أن الأسرة تمتلك الكثير من الحاجيات التي يصعب التعامل معها تحت القصف، مؤكدة أن “الرحيل غير وارد حاليًا”.
من جهتها، تعيش أمل سيام، مديرة مركز شؤون المرأة، منذ نحو أربعة أشهر في مقر المركز بحي النصر غرب المدينة، بعد أن دمّر منزلها في حي التفاح. خلال الحرب، تهجّرت سيام خمس مرات، ثلاث منها داخل المدينة، واثنتان إلى الجنوب. وبصوت يختنق بالبكاء، قالت: “لن أغادر إلا عندما يغادر كل من يحتاجني. كل غزة الآن تبدو كمنطقة حمراء، والقصف لا يبعد عنا سوى أمتار”.
أزمة إنسانية جنوب القطاع
من جانب آخر، فإن من تمكنوا من مغادرة مدينة غزة لم يجدوا أوضاعًا أفضل في الجنوب، بل اصطدموا بواقع إنساني مأساوي. تؤكد إيمان النية، نازحة إلى خان يونس، أن المخيمات مكتظة بشكل خانق، وتفتقر لأبسط مقومات النظافة، في حين أصبح تأمين الماء والطعام تحديًا يوميًا، مشيرة إلى أن الأسعار ارتفعت بشكل لافت منذ تدفق النازحين من الشمال.
من جهتها، تقول شروق أبو عيد، وهي حامل، إن التنقل داخل المخيمات بات مرهقًا، حيث تستغرق المسافة التي كانت تُقطع في دقائق نحو ساعة بسبب الازدحام الشديد، مشيرة إلى أن المسافة بين الخيام لا تتجاوز بضعة سنتيمترات. أما جمال أبو ريلي، فيعرب عن قلقه من التدهور المستمر، متسائلًا: “كيف سنستقبل موجة جديدة من النازحين؟ الحمامات ممتلئة، والمساحات انتهت. هل سيبيتون في البحر؟”
وتأتي هذه التطورات في إطار التصعيد المستمر منذ أشهر بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، في واحدة من أعنف مراحل الصراع منذ عقود. وتحذر منظمات حقوقية وإنسانية من أن استمرار القصف الواسع والممنهج قد يؤدي إلى كارثة إنسانية شاملة في قطاع غزة، خاصة مع تكرار عمليات التهجير ونقص المساعدات الأساسية.