في أجواء مشحونة بالتوتر والقلق، وصلت وفود أفغانية وباكستانية رفيعة المستوى إلى العاصمة القطرية الدوحة، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أسبوعٍ من أعنف المواجهات الحدودية بين البلدين منذ سنوات.
المشهد بدا استثنائياً بكل تفاصيله؛ وزراء دفاع يقودون وفوداً عسكرية وأمنية محملة بملفاتٍ ثقيلة، وعيون المجتمع الدولي تترقب ما إذا كانت قطر ستنجح مجدداً في أداء دور الوسيط الهادئ في منطقةٍ أنهكتها الأزمات المتشابكة.
شرارة الأزمة تتجدد بعد تبادل الاتهامات
اندلعت شرارة الأزمة قبل أكثر من أسبوع حين تبادلت كابول وإسلام آباد الاتهامات بشأن هجمات عبر الحدود تسببت في سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى.
اتهمت باكستان جماعات مسلحة تنطلق من الأراضي الأفغانية بتنفيذ عمليات تستهدف قواتها في إقليم خيبر بختونخوا، بينما ردت أفغانستان بأن الضربات الجوية الباكستانية استهدفت قرى مأهولة وأودت بحياة مدنيين بينهم نساء وأطفال.
وبين الروايتين، يضيع صوت العائلات المنكوبة على جانبي الحدود التي لم تعرف الهدوء منذ عقود.
الدوحة… ساحة الحوار وفرصة أخيرة للتهدئة
تُوصَف المفاوضات الجارية في الدوحة داخل الأوساط الدبلوماسية بأنها “الفرصة الأخيرة” قبل انزلاق العلاقة بين الجارتين إلى مواجهة مفتوحة.
وذكرت الحكومة الباكستانية أن المباحثات ستركز على إجراءات عاجلة لوقف الإرهاب العابر للحدود وإعادة الاستقرار إلى المناطق الحدودية. أما الجانب الأفغاني، فنفى تماماً دعم أي جماعات مسلحة، متهماً إسلام آباد بمحاولة تصدير أزماتها الداخلية وإيجاد “عدوٍّ جاهز” لتبرير العنف داخل أراضيها.
هدنة هشة وغارات باكستانية تشعل الغضب
انتهت الهدنة المؤقتة التي رعتها أطراف إقليمية مساء الجمعة دون تحقيق أي اختراق ملموس. وما هي إلا ساعات حتى شنت القوات الجوية الباكستانية سلسلة غارات داخل إقليم باكتيكا شرقي أفغانستان، قالت إنها استهدفت مواقع لجماعة حافظ غل بهادر، المتهمة بتنفيذ عملية انتحارية ضد مجمع أمني في مير علي.
وأكدت مصادر أمنية باكستانية مقتل عدد من المسلحين، فيما أعلنت وزارة الداخلية الأفغانية مقتل عشرة مدنيين على الأقل، بينهم أطفال ولاعبو كريكيت محليون، الأمر الذي فجّر موجة غضب دفعت الاتحاد الأفغاني للكريكيت إلى مقاطعة المباريات المقررة مع باكستان في احتجاج رمزي يتجاوز الرياضة نحو السياسة.
خط دوراند… الجرح التاريخي الذي لا يلتئم
الحدود الممتدة بين البلدين بطولٍ يفوق 2,600 كيلومتر والمعروفة باسم “خط دوراند” تبقى الجرح الأقدم والأعمق في العلاقة بين كابول وإسلام آباد. فمنذ رسمها في القرن التاسع عشر، لم تعترف بها الحكومات الأفغانية المتعاقبة، معتبرة أنها تقسم قبائل البشتون وتستند إلى تفاهمات استعمارية قديمة.
أما باكستان فتراها خطاً دولياً ثابتاً لا يقبل الجدل، وتحمّل “الرفض الأفغاني التاريخي” مسؤولية معظم التوترات الأمنية.
ومع سيطرة حركة طالبان على الحكم عام 2021، عادت الخلافات إلى الواجهة بصورة أعقد، إذ تتهم إسلام آباد طالبان بالتغاضي عن تنظيمات مسلحة، بينما ترى كابول أن باكستان لم تتوقف يوماً عن التدخل في شؤونها الداخلية.
الدوحة بين الوساطة والاختبار الصعب
تجري الجلسات في الدوحة خلف أبوابٍ مغلقة، وسط حضورٍ دبلوماسي مكثف وأجواء يسودها الحذر. قطر التي راكمت خبرة طويلة في الوساطات الإقليمية تحاول هذه المرة تقريب وجهات النظر وفتح قنوات تفاهم بين الجانبين. كما أكدت مصادر دبلوماسية أن الطرفين يدركان خطورة استمرار التصعيد، وأن الفشل في التهدئة قد يؤدي إلى تداعيات كارثية على أمن المنطقة بأكملها.
قلق دولي وتحذيرات من عودة التطرف
يتابع المجتمع الدولي تطورات الأزمة عن كثب. فقد دعت كل من السعودية وقطر إلى ضبط النفس وتغليب لغة الحوار، بينما عبّرت الأمم المتحدة عن قلقها من احتمال أن يؤدي استمرار العنف إلى عودة نشاط تنظيمات متطرفة مثل “داعش” و”القاعدة” في المناطق الحدودية غير المستقرة. أما في الشارع الأفغاني والباكستاني، فالمشاعر متناقضة بين الخوف من الحرب والتشكيك في جدوى المفاوضات التي كثيراً ما انتهت دون نتائج.
مستقبل غامض على حدود لا تعرف السلام
في ظل هذه المعطيات، تبدو محادثات الدوحة أمام اختبارٍ صعب ومعقّد. فالثقة شبه غائبة، والملفات الأمنية متشابكة، والمصالح الداخلية تضغط بقوة على القرار السياسي في البلدين. ومع ذلك، يعلّق المراقبون الآمال على أن تنجح الدبلوماسية القطرية في إطفاء نارٍ اشتعلت على حدودٍ لم تعرف يوماً معنى الاستقرار.




