مع اعتلاء البابا ليو الرابع عشر كرسي البابوية، يواجه تحديًا غير روحاني على الإطلاق: أزمة مالية خانقة تضرب قلب الفاتيكان. فبدلاً من تسلّم مؤسسة كنسية مستقرة، يجد نفسه على رأس جهاز بيروقراطي مثقل بالعجز، وسوء إدارة، وغموض يكتنف موازناته، وفق ما كشفه تحقيق لصحيفة وول ستريت جورنال.
إرث ثقيل من الفوضى والفشل الإداري
على مدى 12 عامًا، حاول البابا الراحل فرانشيسكو مواجهة هذه الفوضى، لكنه اصطدم بجدار من الرفض والخوف داخل أروقة الفاتيكان. فقد أثار استقدامه لمدققين ماليين ذعرًا بين رجال الدين، الذين رأوا في قواعد المحاسبة تهديدًا لنفوذهم، بل إن البعض حاول إخفاء الأموال خلف ستار “الأمن القومي” في الدول التي يُجرم فيها التبشير.
وفي محاولة لكسر هذه الثقافة، استدعى البابا فرانشيسكو خبراء ماليين خارجيين، وعيّن الكاردينال جورج بيل على رأس أمانة الاقتصاد الجديدة. كما تم استقدام مديرين ماليين من القطاع الخاص، من بينهم الرئيس التنفيذي السابق لشركة “إنفيسكو أوروبا”، لإعادة هيكلة بنك الفاتيكان، حيث تم إغلاق آلاف الحسابات المشبوهة.
أرقام صادمة ومفارقة تراثية
تشير الوثائق إلى أن العجز في ميزانية الفاتيكان تضاعف ثلاث مرات، وصندوق التقاعد يترنح على حافة الانهيار. وعلى الرغم من ثراء الفاتيكان الفني والثقافي—من لوحات مايكل أنجلو إلى مخطوطات نادرة—فإن هذه الكنوز تُسجل في الدفاتر بقيمة اسمية لا تتجاوز يورو واحدًا، تعبيرًا عن رمزيتها الدينية لا المالية، مما يفاقم التناقض: دولة غنية بتراثها، عاجزة ماليًا.
أشار تقرير داخلي إلى أن صندوق التقاعد في الفاتيكان يواجه التزامات مالية تقترب من 1.5 مليار يورو، وهو رقم كبير قد لا تتمكن الكنيسة من الوفاء به مستقبلًا. في المقابل، سعت الإدارة السابقة إلى معالجة الوضع عبر إصدار تقارير مالية دورية، وتنظيم ورشات تدريبية لرجال الدين حول قواعد الإنفاق. ومع ذلك، فإن مقاومة التغيير من داخل الجهاز البيروقراطي ظلت عائقًا كبيرًا، مما زاد من تعقيد الأزمة واستمرارها.
الفساد في قلب الكنيسة
الفساد لم يكن غائبًا. فالكاردينال بيتشو، أحد كبار المسؤولين، أدين في فضيحة مالية مدوية، شملت استثمارات مشبوهة في عقارات لندن، وتحويل أموال لجهات مشبوهة. وحتى بعد محاولات إصلاحية جريئة مثل خفض رواتب الكرادلة وإلغاء امتيازاتهم السكنية، ظل العجز يتفاقم.
وتُظهر الوثائق أن بيتشو استثمر أموالًا من صندوق سري في صفقة عقارية. هذه الصفقة كلفت الفاتيكان أكثر من 400 مليون دولار، ثم تم بيعها بخسارة تقارب 175 مليون دولار. كما تم اتهامه بتحويل مبالغ لمجموعة غير ربحية يديرها شقيقه، وبإخفاء مصير نصف مليون دولار من مكتب العقيدة.
مستقبل غامض وتحديات جسيمة
الآن، ومع رحيل البابا فرانشيسكو دون حسم الأزمة، تنتظر البابا الجديد مهمة شاقة: تطهير الكنيسة من فوضى مالية عمرها عقود، وتحقيق التوازن بين قدسية الرسالة وتحديات الإدارة. فهل ينجح ليو الرابع عشر في ما أخفق فيه سلفه؟ الأيام وحدها ستجيب.
وقد كانت آخر رسائل البابا الراحل قبل وفاته تحذر من “اختلال خطير محتمل” في نظام التقاعد. كما طالب بتحديد جدول زمني صارم للقضاء على العجز. إلا أن وفاته سبقت اتخاذ أي قرارات جذرية، مما يجعل البابا الجديد أمام مهمة أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه من الخارج.