شهدت تركيا واحدة من أوسع حملات القمع السياسي منذ عقود، حيث تم احتجاز أكثر من 500 من معارضي الرئيس رجب طيب أردوغان خلال الأشهر التسعة الماضية، بحسب مراجعة خاصة أعدتها وكالة “رويترز“. وتستهدف هذه الحملة بشكل مباشر شخصيات بارزة في المعارضة التركية، وعلى رأسهم رؤساء بلديات ومسؤولين من حزب الشعب الجمهوري المعارض، في إطار تحقيقات وُصفت بأنها “مكافحة للفساد”، ولكنها أثارت انتقادات واسعة من المعارضة ودوائر دبلوماسية.
اتهامات بالفساد تستهدف حزب المعارضة الرئيسي
بدأت التحقيقات في إسطنبول وامتدت لاحقًا إلى مدن كبرى أخرى مثل إزمير، أضنة، أنطاليا وأديامان. المثير للجدل أن التحقيقات طالت فقط البلديات التابعة لحزب الشعب الجمهوري، الحزب الذي أسسه مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك. الحزب بدوره رفض كل الاتهامات، واعتبرها محاولة واضحة “لإقصاء بديل ديمقراطي حقيقي”، في وقت تستعد فيه البلاد لانتخابات مستقبلية مصيرية.
إمام أوغلو في قلب العاصفة
من أبرز المستهدفين في هذه الحملة، أكرم إمام أوغلو، عمدة إسطنبول، والمرشح الأبرز لمنافسة أردوغان مستقبلاً. تم اعتقاله في مارس الماضي بتهم فساد، رغم نفيه التام لها، ورغم عدم صدور أي لوائح اتهام رسمية بحقه حتى الآن.
وفقًا لوثائق اطلعت عليها وكالة “رويترز”، يواجه إمام أوغلو اتهامًا بالتورط في اجتماع مزعوم عُقد داخل مقهى ناقش فيه عدد من الأشخاص ترتيبات لرشاوى. غير أن فريق الدفاع نفى هذه المزاعم، موضحًا أن اتصال هاتف إمام أوغلو بنفس البرج الخلوي الذي استخدمه المتهمون الآخرين ناتج ببساطة عن قرب منزله من المقهى، وليس دليلاً على مشاركته في الاجتماع.
أرقام تكشف حجم الحملة
حتى الآن، تم اعتقال أكثر من 220 شخصًا على خلفية التحقيقات الجارية. ويشمل ذلك 14 رئيس بلدية منتمين لحزب الشعب الجمهوري، إضافة إلى أكثر من 200 من أعضاء الحزب ومسؤولين محليين يخضعون إما للتحقيق أو للاحتجاز. وفي سياق موازٍ، أدلى 36 رجل أعمال باعترافات من داخل السجن بموجب ما يُعرف في القانون التركي بـ”الندم الفعال”، وهو ما سمح لاحقًا بالإفراج عن 32 منهم تحت إجراءات الرقابة القضائية.
انتقادات دولية خافتة وصمت رسمي
رغم اتساع الحملة، لم تصدر إدانات قوية من الحلفاء الغربيين، في ظل تنامي نفوذ أنقرة في قضايا الشرق الأوسط وأوروبا. كما يرى البعض أن صمت الغرب يعكس رغبة في الحفاظ على العلاقات مع تركيا رغم المخاوف من التراجع الديمقراطي.
من جهته، رفض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل قاطع الاتهامات بالتدخل السياسي في عمل القضاء. وخلال كلمة ألقاها أمام نواب حزب العدالة والتنمية في البرلمان، شدد على أن ما يجري هو “مسار قانوني وليس سياسيًا”، مؤكدًا أن الحكومة “ليست طرفًا في هذا المسار القضائي”.
قلق متزايد داخل تركيا
من ناحية أخرى، يرى إرتغرل غوناي، وزير الثقافة الأسبق والمنشق عن حزب العدالة والتنمية، أن هذه التحقيقات لا تستند إلى وقائع حقيقية، بل تُستخدم كأداة للضغط السياسي. واعتبر أن الحملة تعكس “حالة من القلق والذعر” يعيشها الحزب الحاكم مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ما يدفعه إلى استهداف المعارضة بشكل غير مسبوق.
هل يمهد أردوغان لإعادة الترشح؟
رغم أن الانتخابات الرئاسية المقبلة مقررة في 2028، إلا أن بعض التحليلات ترجح إمكانية تقديمها، خصوصًا إذا سعى أردوغان للالتفاف على الحد الدستوري بفترتين رئاسيتين.
ردًا على الاتهامات، نشرت مديرية الاتصال التركية قائمة بأسماء رؤساء بلديات سابقين من حزب العدالة والتنمية تمت محاسبتهم بتهم مماثلة، نافية أن تكون الحملة موجهة ضد المعارضة فقط. لكن تقارير “رويترز” أكدت أنه لم تتخذ إجراءات مماثلة بحق أي من رؤساء البلديات الحاليين التابعين للحزب الحاكم.
انقسام سياسي واستقطاب متزايد
في سياق متصل، صرح أوزغور أوزيل، زعيم حزب الشعب الجمهوري، بأن “هؤلاء الرؤساء أصبحوا أسرى لانقلاب على حزب أتاتورك”، في إشارة إلى حملة الاعتقالات التي تطال قيادات حزبه. لكن هذا التصريح لم يمر دون تبعات، إذ سرعان ما فتح تحقيق جديد بحقه بتهمة “إهانة الرئيس”، ما زاد من حدة التوتر السياسي القائم.
في النهاية،